الإعلام والديمقراطية في الجزائر
علي جري
الرئيس والمدير العام لمؤسسة "الخبر"
(ورقة عمل مقدمة في المؤتمر السنوى للمنظمة العربية لحرية الصحافة – مايو 2002)
"إذا تكلمت مت ، وإذا صمت مت .. إذن قل ومت.."
الطاهر جاووت/صحفي اغتيل عام 1993
مقدمة
ليست هناك صحافة في العالم قتل فيها هذا العدد الهائل من الصحفيين ولا تعرضت مقراتها للتدمير اكثر من مرة، ولا علق اصدار هذا الكم الكبير من الصحف في وقت وجيز، في حين بقيت هذه الصحافة واقفة امام انهيار معظم المؤسسات، خلال عشرية بأكملها. تحمل على عاتقها عبء التعبير عن رغبات وآلام المجتمع المدني، وتدلي في الآن نفسه بشهادات يومية عن الفظاعات المرتكبة من قبل الجماعات الاسلامية الارهابية.
ان الصحفي الجزائري "يعد من القلة في العالم الذين يغادرون مسكنهم صباحاً دون ان يكونوا متأكدين من الوصول الى مقرات جرائدهم، ومن الذين يعملون جاهدين على اصدار هذه الجرائد دون أن يكونوا واثقين من أنها سوف تباع في الأكشاك غداً".. ومن أصدق من سعيد مقبل ليلخص مهنة الصحفي الجزائري؟ هو الذي بقي على رأس جريدة لومتان، يتلقى التهديدات اليومية بالموت، ولا مؤنس له إلا تلهف آلاف القراء لعموده "مسمار جحا" و"لوقاحة" قلمه التي تعزيهم عن تقاعس الدولة عن حمايتهم وعن هذا الواقع الذي غدا أصعب يوماً عن يوم.
مهنة هي مرادف للموت والمضايقات والسجون .. مهنة أودت به الى حتفه، عام 1994 وأودت بحياة زميله رئيس تحرير جريدة "الخبر"، عاماً من بعد، في عقر حيه، ليتاح لي أن أقف اليوم على رأس جريدته التي عانت الكثير من المصاعب لتصل الى سحب قدر أمس فقط بخمسمائة الف نسخة، وجاهدت لاقتناء مطبعة خاصة تغنينا عن تبعية الدولة وتمدنا باستقلال حقيقي.
فإليهم جميعاً ، والى آخرين كثر وإلى كل المخلصين من الصحفيين الذي يصرون على مزاولة واجب الكتابة حيثما شب الحريق وتفاقم الألم .. الى شهداء فلسطين وشهداء الواجب في جميع الأصقاع.
الصحافة المستقلة… الفضاء الوحيد الذي يقاوم:
لماذا اخترنا الحديث عن العلاقة بين الاعلام والديمقراطية في التجربة الجزائرية.. أولاً لأن هذه التجربة فريدة من نوعها، ورائدة في مجال الاعلام العربي، من حيث النشأة ومن حيث المسار ومن حيث الهامش الرائع من حرية التعبير، على الرغم من قصر سنها. ولأن الصحافة المستقلة في الجزائر هي أجمل مكتسب من المكاسب العديدة لانتفاضة اكتوبر 1988. فقد كانت الصحافة الوحيدة في العالم التي لم تكتف بدورها في إعلام الرأي العام، بل تجاوزته لتؤدي دور الأحزاب السياسية الغائبة ودور الجمعيات المتقاعسة، وعلى كتفيها حملت كل هذه الأعباء وعلى رأسها العبء الوطني، وبالتالي وجدت نفسها خلال العشرية الأخيرة في الخندق لمكافحة الارهاب.
وقد شكلت الديمقراطية هاجساً لدى هذه الصحافة، وبالتالي وجدت نفسها عرضة للتلاعب أو التدجين او الاخضاع، فالسلطة قد حاولت استخدام هذه الصحافة في مراحل معينة كمرآة لتلميع صورتها في الخارج، وفك الحصار المطبق حولها على الصعيد الدولي لكن بمجرد انفراج الأوضاع، استعملت هذه السلطة شتى الوسائل بهدف خنق هذه الصحافة والتضييق عليها، وايقاف بعض عناوينها، وبالتالي أضحت العلاقة التي تربط الصحافة بالسلطة تارة تصادمية وطوراً توافقية، وأصبحت "المغامرة الثقافية" محل شد وجذب من قبل هذه السلطة.
ان الصحافة لم تحدد طابع هذه العلاقة مسبقا، لكنها شكلت رغماً عنها الفضاء الوحيد الذي يقاوم وكفاحها يعكس كفاح المجتمع بأكمله من أجل المزيد من حرية التعبير.
- لماذا الحديث عن هذه العلاقة؟ لأن حرية الاعلام جزأ لا يتجزأ من حرية التعبير، بالتالي من الديمقراطية في حد ذاتها. ومن خلال تصفح تاريخ الصحافة في الجزائر، نستطيع ان نقيس مدى انغراس قيم الحرية وممارستها في المجتمع ومدى ديمقراطية أي نظام سياسي.
الاعلام العصري والظاهرة الاستعمارية .. من الرفض الى التبني:
تنبه المفكر الجزائري فزائز قانون في أحد مؤلفاته المشهورة الى الدور الذي لعبه الاعلام، أثناء الثورة ليس في محاربة الاستعمار فقط بل في تغيير العقليات لدى الكثير من الأوساط الريفية التي استعملت الوسائل الاعلامية الجديدة بما فيها المذياع الجديد عليها كسلاح ووسيلة لمحاربة التخلف والقهر الاستعماريين في مجتمع ريفي فقير ومستعمر، للتحول الى وسيلة تغيير اجتماعي وثقافي ذات تأثير عميق في مجتمع يشكو من الامية وسيطرة الثقافة الشفهية على النص والمكتوب كان هذا حال جزائر نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات وهي على وشك الخروج من السيطرة الاستعمارية، فما هو حال جزائر الاستعمار وكيف كانت بداية العلاقة التاريخية بين المجتمع الجزائري والوسائل الاعلامية العصرية، بما فيها الصحافة والاعلام المكتوب، وهل كانت هذه الوسائل العصرية الحديثة فعلاً وسيلة لدعم الديمقراطية ونشر قيم الحرية والمساواة أم وسائل لتدعيم القهر ودعم التبعية الاستعمارية؟؟
انها بعض الاسئلة التي يكون من المفيد الاجابة عنها كمدخل تاريخي عام قبل الحديث عن تلك الأدوار المختلفة التي لعبها الاعلام خلال أهم المراحل التي عرفها المجتمع الجزائري ليس أثناء فترة الاستعمار بكل عقودها الطويلة بل كذلك خلال مراحل الحركة الوطنية والثورة وبالتالي الاستقلال الذي عرفت فيه مكانة الاعلام مؤسسات رجال وقيم استعمالات لم تكن دائماً في خدمة القيم الديمقراطية والحرية.
قدمت الصحافة الى الجزائر محمولة على أمتعة الجيوش الاستعمارية ذات شهر جوان من عام 1930 وبعد 24 ساعة من نزول الفرنسيين على رمال سيدي فرج صدرت أول جريدة فرنسية في الجزائر.
حضرت المطبعة والجريدة كما هو حال المدرسة الحديثة والمستشفى في نفس الفترة التي ظهر فيها العسكري والمعمر.
بالطبع ومن هذا المنظور لا يمكن ان تكون هذه الادوات العصرية الحديثة إلا جزءاً من الآلة الاستعمارية وفي خدمة اغراضها الاستراتيجية، فاستعملت الجريدة كسلاح في يد الأقلية الاوروبية لدعم مصالحها الاقتصادية على حساب الاغلبية فلا الأمية المنتشرة بين جموع الجزائريين ولا الفقر ولا حتى اللغة الفرنسية المستعملة كانت من الأمور التي سهلت عملية انتشار هذه الوسائل الاعلامية التي اتخذ منها المواطن الجزائري موقف الحذر بل والمعاداة، بعد أن اكتشف ان هذه القنوات الاعلامية العصرية وغير المعروفة لديه، لم تكن في خدمته بل استعملت لاستعباره اكثر، ولتبرير الوضعية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية المزرية التي كان يعيشها.
حتى بداية العشرينيات من القرن الماضي لم يكن من الممكن موضوعياً الحديث في الجزائر عن دور ديمقراطي للاعلام المكتوب، بمعنى خدمة مصالح الأغلبية وهمومها والتعبير عنها من جراء خصوصيات الظاهرة الاستعمارية نفسها في الجزائر.
كان لا بد من انتظار ظهور بوادر الأشكال العصرية والجديدة للحركة الوطنية بمختلف ألوانها السياسية حتى يمكن الكلام عن دور ديمقراطي بالمعنى الذي منحناه للمفهوم أي وسيلة تعبير عن هموم ومصالح الأغلبية واحترام آراء المختلفة التي تخترق المجتمع، لم يكن غريباً في هذه المرحلة من تطور المجتمع الجزائري ان تظهر البوادر الأولي للاعلام الوكني الذي استعلمت فيه هذه الوسيلة الاعلامية المكتوبة كأداة للصراع والتعبير عن قضايا وهموم المواطن الجزائري الذي رفض الاعلام الاستعماري المسيطر التعبير عنها بل والاعتراف بها اصلا.
في ظل هذا الصراع استعملت الحركة الوطنية وفي بداياتها الأولي ومن خلال نخبها المختلفة الضعيفة العدد والتأثير هذه الأدوات الاعلامية العصرية، المتمثلة في الجرائد والمجلات المكتوبة التي حارب الاستعمار دخولها من دول المشرق العربي عموماً، عندما حاولت بعض الفئات المتعلمة ادخالها للجزائر كمتنفس ثقافي، تحول العمل الاعلامي طول هذه المدة الى عمل وطني ونضالي من قبل فئات متعلمة قليلة من دون امكانيات مادية ولا تأهيل، فتعددت المنابر الاعلامية التي اقتربت أكثر فأكثر من هموم ومشاكل الاغلبية الساحقة من الجزائريين، فظهرت الجريدة والمجلة وباللغتين، مما جعلها تتحول في الغالب الى ضحية من الدرجة الاولى للآلة القانونية والعسكرية الفرنسية، فتقلص عمر الجرائد والمجلات الى بعض الاعداد في الكثير من الأحيان، كما حورب الصحفيون – المناضلون، وضيق عليهم، مما منح نكهة خاصة للكتابة الصحفية التي اقترنت بالعمل السياسي والتحريضي المباشر فتحول الاشتراك في الجريدة مثل اقتنائها الى سلوك وطني ناهيك عن الكتابة فيها او الترويج لها.
نفس المواجهة وبحدة اكثر عرفتها مرحلة ثورة التحرير وقبلها الحركة الوطنية فقد استعملت هذه الوسائل الاعلامية الحديثة وبالجديد الذي ظهر منها – الراديو- كوسائل لدعم المعركة من اجل الاستقلال الوطني خدمة لمصالح الأغلبية من الشعب الجزائري، الذي تبنى بقوة هذه الادوات الاعلامية العصرية، مانحاً اياها أدواراً ثورية خدمة لقضاياه، فظهرت جرائد الثورة بالداخل والخارج، وفي نفس الوقت برزت فيه للوجود المحطات الاذاعية وبكل اللغات المستعملة في الجزائر بما فيها الامازيغية بكل لهجاتها للتقرب اكثر من هموم ومشاكل المواطن الجزائري في مختلف مناطق البلاد، فتحولت حصص الاستماع الى راديو الثورة في لقاء متميز بين المواطنين الذين سيطرت بين أوساطهم الأمية.