مقدمة
يعتقد كثيرون أن ما تحمله كلمتا الصحافة والأخلاق من فرقة أكثر مما تحملانه من تقارب. وقد أدى استخدام الصحافة أداة في صراعات اجتماعية وسياسية واقتصادية عديدة، على مدى عقود طويلة، إلى الإساءة إلى صورة الصحافة والنيل من مصدقيتها لدى الجمهور.
كما تأثرت الصحافة بالتوجيه والقيود والضغوط والممارسات غير المهنية، التي وجدت نفسها تعاني تبعاتها الثقيلة، بسبب أنماط الإدارة والملكية وهيمنة الأنظمة السياسية؛ الأمر الذي زاد الالتباس فيما يتعلق بالأخلاقيات التي تحكم الممارسة المهنية الصحافية.
وربما يبدو الحديث عن الأخلاق فيما يتعلق بالأمور المهنية الاحترافية أمراً غريباً؛ لكن دعنا نتساءل: من منا يعترف أنه يمارس عمله الصحافي أحياناً بشكل غير أخلاقي؟
هل تعرف صحافياًً يجرؤ على أن يقول إنه يقوم بمهمة غير أخلاقية؟ ففي الصحافة، وفي غيرها من المهن، الكل يدعي أنه يعمل في إطار أخلاقي. وعادة ما تسمع الصحافيين يبررون قراراتهم وأفعالهم بشعارات مثل: "حق الجمهور في المعرفة"، أو العمل من أجل "تحقيق المصلحة العامة لخير الوطن والمواطنين".
وبينما تسهل مراقبة معظم من يعملون بالمهن الأخرى عبر تطبيق معايير "الرقابة والجودة"، يصعب ذلك مع العمل الصحافي.
لذلك ظهرت مواثيق الشرف الصحافي Codes of ethics or conduct. كما ظهرت أدلة السياسة التحريرية Editorial Guidelines.
وباستعراض ما هو متوافر من هذه الوثائق عربياً قد نجدها ملأى بالعبارات الرنانة والعهود المخلصة بغير كثير من التفصيل عن كيف سيتم ضمان التزام هذه العهود.
غير أن الأكثر شهرة في هذا الصدد، عربياً، هي القوانين التي تنظم العمل الصحافي، والتي يُراد منها في الأساس حماية المجتمع من تغوّل الصحافيين، وحماية الصحافيين من إسراف السلطة في استخدام صلاحياتها. لكن واقع الأمر أن الكثير من هذه القوانين لا يفعل هذا ولا ذاك، بقدر ما يظل أداة في يد من يحسن استخدامه، أو بالأحرى من يتمكن من إساءة استخدامه.
إذن تلك القوانين والمواثيق ربما لا تكفي وحدها لتقنين الممارسة الإعلامية وضبطها أخلاقياً، وربما يكمن الحل في إعطاء الأخلاق مساحة مناسبة ضمن اعتبارات ممارسة تلك المهنة. لكن ما الأخلاق؟
ما الأخلاق؟
في فبراير/شباط من العام 2000، أفادت نتائج استطلاع للرأي في بريطانيا أن 78% من المستطلعة آراؤهم لا يعتقدون أن الصحافيين بصفة عامة يقولون الحقيقة.
استطلاع آخر للرأي أُجري في إحدى النقابات الصحافية العربية في العام 2003، أشار إلى أن 72% من الصحافيين المستطلعة آراؤهم "يقرون بفساد مهنة الصحافة".
ما تقوله تلك النتائج وغيرها أن العاملين في مهنة الصحافة سواء في الغرب أو العالم العربي يحتاجون إلى المزيد من الجهد لتعزيز يقين الجمهور فيما يتعلق بدورهم في المجتمع، ولكسب المزيد من الثقة والصدقية.
إن تعزيز يقين الجمهور وكسب المزيد من الثقة يحتاج، في المقام الأول، إلى تكريس المعايير الاحترافية في الأداء، و التزام قيم العمل الصحافي، فضلاً عن إكساب الممارسة المهنية الصحافية حسها الأخلاقي، الذي يضمن تفعيل هذه القيم وعدم إساءة استخدامها.
وعلى عكس القيم والمعايير المهنية، فإن الأخلاق قد ترتبط بإدراكك لمدى وجودها أكثر من ارتباطها بمعايير محددة يمكن بها قياس ما هو أخلاقي وما هو غير أخلاقي.
غير أن قضية تعريف الأخلاق قديمة قدم الفلسفة. والمحور الذي تدور حوله مناقشة قضية الأخلاق هو افتراض أننا نملك حرية التصرف بطريقة أو أخرى.
وانقسم الفلاسفة في رؤيتهم للأخلاق إلى ثلاث مدارس رئيسة؛ ربطت كل مدرسة منها الأخلاق بعنصر معين، على النحو التالي:
- الأخلاق ترتبط بطبيعة الفرد الفاعل نفسه، أرسطو.
- الأخلاق ترتبط بطبيعة الفعل، إيمانويل كانت.
- الأخلاق ترتبط بنتائج الأفعال، مذهب النفعية عند جيرمي بنثام، وجون ستيوارت ميل.
ثم بعد ذلك نشأت مدارس عدة في تعريف الأخلاق، بعضها ارتبط بالقانون، والبعض الآخر ارتبط باللغة والمصطلحات، قبل أن تنشأ نظريات الحرية المطلقة (سارتر)، التي اعتبرت أن الحرية هي أساس الأخلاق، وأن "الأخلاق هي أن نفعل ما نريد".
في خضم هذه النظريات المتباينة يصعب على صحافي، يعمل في غرفة أخبار عادية، أن يبني قراراته على ما ذكره كانت أو ما آمن به جان بول سارتر.
وبالتالي فإن التحلي بالأخلاق في العمل الصحافي هو فن أو إحساس، أكثر منه علماً تضمن بتدريسه التزام الدارسين إياه. غير أن معرفة ما تناولته الأدبيات المعنية يعين على اتخاذ القرار الأمثل في الحالات الخلافية.
الدور الأخلاقي للصحافة في المجتمع
تتباين وجهات النظر حول تأثير العمل الصحافي. فهناك من يعتقد بأنه من الصعب استمرار الأثر الذي تتركه نشرة أخبار واحدة إلى حين إذاعة النشرة التالية، ناهيك عن أن يمتد هذا الأثر المزعوم ليوم أو أكثر(هناك رأي يقول إن المكان الطبيعي لصحيفة الأمس هو سلة المهملات).
ومع ذلك يعتقد آخرون أن أهمية مهنة الصحافة لا تنبع من درجة التغيير الفعلي الذي تحدثه في المجتمع، بقدر ما تنبع من كون الصحافيين يملكون القدرة على طرح القضايا العامة، ووضعها في أطر مفهومة، كما يقومون بتصنيف الأحداث والقضايا المختلفة.
وبذلك يرسم الصحافيون خرائط يستطيع الجمهور، من خلالها، أن يفهم العالم خارج النطاق المباشر لدائرة اهتمامه، بما في هذا العالم من مخاوف وطموحات وأحلام.
فرد فعل المجتمع على ما قد يقوم به الصحافيون من كشف للفساد أو الجرائم الكبرى يكشف بوضوح مدى تفاعل الجمهور مع الصحافيين بشكل إيجابي.
على أن الدور الأخلاقي للصحافة يتجلى في أوضح صوره في قدرة الصحافة والصحافيين على تشخيص الأطراف الفاعلة في الحدث/القصة، وإيراد حجج تلك الأطراف بعدالة، ومنحها الحقوق المتكافئة للدفاع عن وجهات نظرها، من دون أي توجيه أو محاولة لحرف اتجاهات الجمهور.
الصحافة من منظور أخلاقي
اعتباراً من منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، تصاعد الجدل في إمكانية التعامل مع الصحافة من منظور أخلاقي.
فموضوعات مثل التدليس في نقل الأخبار، وانتهاك بعض الصحافيين للحريات الخاصة، وتعاملهم مع ضحايا أعمال العنف، ودفع مبالغ طائلة للحصول على معلومات حصرية عن تفصيلات الفضائح في المجتمع، كلها موضوعات ولّدت تساؤلات عن الدور الذي يدعيه الصحافيون فيما يتعلق بالمسؤولية الاجتماعية، وكشف المفسدين، والمحافظة على المصلحة العامة.
وفي هذه الأجواء أُثير جدل عن لماذا يعتبر الصحافيون أنفسهم فوق مستوى الشبهات، وخارج نطاق المحاسبة؟ ولماذا يتمتعون بسلطة جمع ونشر المعلومات دون تحمل مسؤولية ذلك؟ فما القيم أو الموازين الأخلاقية التي تحكم تصرف الصحافيين في الواقع العملي؟ ومن يراقب المراقبين؟
إن المكانة والصلاحيات التي يتمتع بها الصحافي لمجرد كونه صحافياً في مجتمع من المجتمعات جديرة ببذل المزيد من الجهد من أجل تعزيز اليقين في الحس الأخلاقي الذي يحكم الممارسة المهنية الإعلامية.
التقاطع بين الصحافة والأخلاق
ثمة نماذج عديدة تتقاطع فيها الممارسة الصحافية المهنية مع الأخلاق بوضوح؛ وبعض هذه النماذج يمثل انتهاكاً صارخاً للقيم الأخلاقية والمهنية، وبعضها الآخر يحتاج عناية كبيرة حتى لا يخرق تلك القيم؛ ومنها ما يلي:
- الرشاوى والهدايا.
- تنازع المصالح Conflict of interest.
- القذف (السب أوتشويه السمعة) Libel.
- التلاعب باللقطات المصورة أو التسجيل الصوتي False Light، الذي قد يوحي بنتائج غير صحيحة تؤدي إلى تشويه سمعة أو اتهام بلا سند.
- تخطي الحدود الأخلاقية عند كشف الحقائق. إلى أي مدى يمكن للغاية النبيلة المتمثلة في كشف الحقيقة، أن تبرر وسيلة غير أخلاقية قد يُضطر إليها الصحافيون لجمع معلومات خاصة؟