أمانة الكلمة في عنق الإعلام ... من دون التذرع بالحرية
في ستينات القرن الماضي تساءل أديب فرنسا الكبير أندريه مالرو عما إذا كان العالم في القرن المقبل (أي القرن الحادي والعشرين) "سيكون متدينا أم لا؟". ولم يقدر لرجل فرنسا الشهير (1901-1976) أن يشهد بدايات القرن الجديد الذي أمسكت العنصرية من جهة والأصوليات الدينية من جهة أخرى بأطرافه حتى بات يعيش حالاً من الانفجار الديني نتيجة اضطرابات فكرية وعصابات ذهنية.
وفي هذا المناخ غير السوي نفسياً وذهنيا تزدهر أعمال الشقاق وتكثر اتجاهات الفراق ويصبح النظر إلى الآخر المختلف اسماً أو ديناً أو مذهباً على أنه العدو الأوحد, وهي حال عرفتها أوروبا قبل عصور التنوير في إطار الصراع المذهبي المسيحي الواحد, ولعل في كتابات دانتي خير دليل على ذلك.
والحق أن ما جرى أخيراً في دول أوروبية من إساءة إلى معتقدات إيمانية إسلامية يجعل من إعادة قراءة حال أوروبا اليوم إزاء الإسلام أمراً واجب الوجود كما تقول جماعة الفلاسفة.
وقبل قراءة معطيات اليوم تلزمناً عودة إلى اصل من أصول المشكلة, وهو حال الأصولية اليمينية التي ضربت الغرب في العقد الأخير والتي تتجلى بأسوأ صورة في ما يجرى داخل الولايات المتحدة. وبعدما ساد الاعتقاد بأن أوروبا, بإرثها الحضاري وتلاحمها الثقافي مع العالمين العربي والإسلامي, أدركت مرحلة من الانثقاف Inculturation في إطار تركيبات فكرية فرضتها خبرات الماضي بما فيه من كر وفر وخصام ووئام, صحونا, ويا للأسف, على خطاب مزعج يرى فيه بعضهم من أمثال سيرجيه فوروبت محرر "فرانس سوار" التي أعادت نشر الرسوم المشؤومة بأننا "هؤلاء المتعصبون الدينيون الرجعيون الذين لا يفهمون معنى حرية التعبير كإنجاز ديموقراطي أساسي".
ولمن لا يعلم فإن 85 في المائة من سكان الدنمارك البالغ عددهم 5.4 مليون نسمة ينتمون إلى اللوثريين الإنجيليين, تتزعمهم الملكة مارغريت التي حذرت من "الإسلام المتطرف" كما سمته في كتاب يحمل سيرتها الذاتية صدر أخيراً.
ويبقى الرجوع إلى أصل النظرة اللوثرية للإسلام و المسلمين عاملاً حاسماً في تحديد ملامح الصورة التي تضطرب يوماً بعد آخر. فلوثر الذي انشق عن الكنيسة الكاثوليكية في القرن السادس عشر الميلادي كانت بداية علاقته بالإسلام والمسلمين وقوعه على كتاب "الرد على القرآن" المعادي للإسلام من أعمال القرن الثالث عشر لريكولدو دامونتيكروتشي, فنقله إلى الألمانية وأراد أن يطوره ليصبح أكثر عصرانية, فقدم له بمقدمة طويلة وذيل له بخاتمة غلبت عليهما مسحة كئيبة متشحة بالسوداوية لصورة الإسلام في أوروبا, والتي تبلورت عقب الحروب الصليبية بما حملته من أرث بغيض. وسيطرت على لوثر قناعة مطلقة بأن المسلمين يفعلون ما يشاؤون حتى ينزل بهم غضب الله في النهاية".
ماذا يمكن أن نفهم من هذا النص البغيض؟ يمكن القول,بداية, أن الأزمة أكبر من مجرد رسوم كاريكاتورية تصيب إيمان أكثر من بليون مسلم, علماً أن تلك التصاوير أساءت سابقاً إلى السيد المسيح وعدد من الأنبياء, ولعل فيلم مثل "آخر إغراءات المسيح" يشير بقوة إلى يد خفية تعبث في هذا الإطار الثيولوجي المطلق.
الأمر الآخر هو أن لوثر وإصلاحه المزعوم كان بداية الاختراق اليهودي للمنظومة المسيحية, وهو ما ولد لاحقاً التيارات المعروفة باسم الصهيونية المسيحية الضاربة اليوم في العالم فتنة وغربلة. ولعل كثيرين لا يعلمون أن لوثر سبق بلفور بأربعة قرون في الدعوة إلى إعادة اليهود إلى فلسطين, ليس حبا فيهم بل خلاصا وتخليصا لأوروبا من "شرورهم وآثامهم" على حد تعبيره.
ومنذ سنوات قليلة يتخبط العالم في صراعات مذهبية لم تقتصر على الرسوم المسيئة, بل تجلت معالمها التصادمية في تصريحات ومواقف شتى, منها على سبيل المثال إساءة القس الأمريكي جيري فالويل, وهو من جماعة اللوثريين, إلى نبي الإسلام, مستهدفاً بخطى وزير العدل الأميركي السابق جون اشكروفت الذي هاجم الإسلام بقوله: "في الإسلام يطلب الله منك أن تضحى بابنك".
وفي تصريح آخر لأحد الضباط البارزين في الاستخبارات الأميركية الجنرال وليام بوكين, كان المشهد أكثر مأسوية عندما قال أن الصوماليين "يكرهوننا لأننا أمه مسيحية ولأن جذورنا يهودية مسيحية فيما جذورهم شيطانية".
ويضيق المقام بذكر المشاهد التراجيدية لمعسكر "الكارهين للإسلام والمسلمين" من أتباع الأصوليات الراديكالية المسيحية.
وحتى لا نغرق في التشاؤم واليأس ينبغي إلقاء الضوء على تيار آخر في أوروبا وجزء من أميركا هو تيار الانفتاح على الديانات الأخرى والقبول بالاختلاف والتعددية في التعابير الدينية كقيمة من صلب الأيمان, وهو ما ذهبت إليه الكنيسة الكاثوليكية في ستينات القرن الماضي عبر ما عرف باسم المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني, وتحديدا من خلال الوثيقة المتعلقة بعلاقة المسيحيين بالأديان الأخرى "في أوقاتنا الحالية Nostra Aetate وفيها "ان الكنسية تنظر بتقدير إلى المسلمين الذين يعبدون الله الأحد الحي القيوم الرحمن القدير فاطر السماوات والأرض ... ويجتهدون في التسليم بكل نفوسهم لأحكام الله وأن خفيت مقاصده كما سلم إبراهيم ذاته له وهو الذي يفخر الدين الإسلامي بالانتساب إليه ... ويكرمون يسوع نبيا كما يكرمون أمه العذراء مريم ويذكرونها بخشوع, وينتظرون يوم الدين الذي يجازي الله فيه الناس عندما يبعثون أحياء, ومن أجل هذا يقدرون الحياة الأدبية ويعبدون الله بالصلاة والصدقة والصوم".
والمؤكد أن هوة سحيقة تفصل بين أتباع الفكر اللوثري وبين هذا الإقرار الصريح, لكننا نتساءل: هل نحن مقبلون على أزمة صراع ديني علني بعدما استتر طويلا وتراءى أحيانا أخرى على استحياء مرتديا زي الحضارات والقوميات؟ أخشى أن تكون الإجابة صدى لما قاله ذات يوم من عام 1953 وزير خارجية فرنسا جورج بيدو بـ "أن الصليب لن ينحني أمام الهلال ... فلنعلنها حربا صليبية".
لكن على رغم هذا يبقى الأمل معقودا على المؤسسات الإيمانية والدينية الكبرى في العالم للوقوف في وجه هذه الهجمة غير الإنسانية التي يمكن أن تجر العالم إلى الاسوأ.
كما تبقى أمانه الكلمة ومسؤوليتها معلقة في رقاب رجالات الإعلام في العالم من دون التذرع بتعبير الحرية والليبرالية, وغير خاف على أحد أن الحرية المطلقة مفسدة مطلقة بخاصة إذا انتهكت مجال العقيدة الشخصية.
غداة أحداث 11 أيلول (سبتمبر) حارت عقول كثير من رجالات الانتلجنسيا الغربية في البحث عن جواب شاف لسؤال: لماذا يكرهوننا؟ ربما يدرك هؤلاء بالنظر إلى المشهد الدنماركي والنرويجي, وأخيرا الفرنسي, في ظل إعادة للرسوم البغيضة من منطلق حرية التعبير الجوفاء, إلى جانب تدنيس القرآن الكريم في غوانتانامو, كيف أنهم ينضمون إلى جماعة حفاري القبور المتشدقين بالمسيحية على رغم أنها في أولى لبناتها تعلم أن "أحبب قريبك كنفسك", والقريب هو الإنسان بمعناه الشامل والأوسع مهما اختلف دينه أو مذهبه, ولهم في السامري الصالح خير مثال