يقول ماكلوهان أن تطور الصحافة المطبوعة في القرن الخامس عشر بفضل اختراع جوتنبرج للحروف المتحركة، كان أكثر الابتكارات التكنولوجية تأثيراً على الإنسان، فالمطبوع جعل الإنسان يتخلص من القبيلة، فمن خلال الحروف الهجائية تمكن من ضغط الواقع وتقديمه من خلال مرشح الحروف الهجائية، وأصبح الواقع يأتي إلينا قطرة قطرة في الوقت الواحد، فالواقع يأتي مجزئاً، ويأتي بتسلسل فهو مجزأ على طول خط مستقيم، وهو تحليلي، وهو مختصر ويقتصر على حاسة واحدة، وعلى وجهة نظر موحدة، ويمكن تكرارها.
كما يقول ماكلوهان":العين لا تستطيع أن تختار ما تراه، ولا تستطيع أن ترجو الأذن أن تتوقف عن الاستماع، فأجسامنا أينما وجدت تشعر، سواء بإرادتنا أو الرغم منا، وكأن على الفرد لكي يشرح رد فعله البسيط على طلوع الفجر مثلاً، الذي قد يستغرق خمس ثوان، أن يضعه في كلمات وفي جملة بعد جملة، لكي يستطيع أن يقول لشخص آخر ما الذي يعنيه طلوع الفجر بالنسبة له"، وقد أكمل اختراع جوتنبرج ثورة الحروف الهجائية، فأسرعت الكتب بعملية فك الشيفرة التي نسميها قراءة، وتعددت النسخ المتطابقة، وساعد المطبوع على نشر الفردية لأنه شجع – كوسيلة أو أداة شخصية للتعليم – المبادرة والاعتماد على الذات، ولكن عزل المطبوع البشر فأصبحوا يدرسون وحدهم، ويكتبون وحدهم، وأصبحت لهم وجهات نظر شخصية، عبّروا بها عن أنفسهم للجمهور الجديد الذي خلقه المطبوع، وأصبح التعليم الموحد ممكناً.
وبفضل الصحافة المطبوعة حدث تغير جذري، فبدأ الأفراد يعتمدون في الحصول على معلوماتهم أساساً على الرؤية، أي على الكلمة المطبوعة، لذلك أصبحت حاسة الأبصار هي الحاسة المسيطرة، بدلا من الاعتماد على الاستماع، أي على الكلمة المنطوقة. وحوّل المطبوع الأصوات إلى رموز مجردة، إلى حروف، وأصبح المطبوع يعتبر تقدماً منتظماً للتجريد، وللرموز البصرية، وساعد المطبوع على تطوير عادة عمل فئات، أي وضع كل شيء بنظام في فئات (المهن) و(الأسعار) و(المكاتب ) و(التخصصات ).وأدى المطبوع في النهاية إلى خلق الاقتصاد الحديث، والبيروقراطية، والجيش الحديث والقومية نفسها.
ويقول ماكلوهان في كتابه (عالم جوتنبرج) الذي صدر في سنة 1962 أن اختراع الطباعة بالحروف المتحركة ساعد على تشكيل ثقافة أوروبا الغربية، في الفترة ما بين سنة 1500 وسنة 1900م، فقد شجع الإنتاج الجماهيري للمواد المطبوعة على انتشار القومية، لأنه سمح بانتشار المعلومات بشكل أكبر وأسرع عما تسمح به الوسائل المكتوبة باليد، كذلك أثرت الأشكال السطرية للمطبوع على الموسيقى وجعلتها تتخلى عن التكوين القائم على التكرار، وقد ساعد المطبوع أيضاً على إعادة تشكيل حساسية الرجل الغربي، فينما اعتبر الرجل الغربي الخبرة كقطاعات فردية، وكمجوعة من المكونات المنفصلة، كان الإنسان في عصر النهضة ينظر إلى الحياة - كما ينظر إلى المطبوع - كشيء مستمر.
كذلك جعل المطبوع انتشار البروتستانتية ممكناً، لأن الكتاب المطبوع بتمكينه الناس من التفكير وحدهم، شجع الكشف الفردي.
وفي النهاية، يقول ماكلوهان أن ((جميع الأشكال الميكانيكية برزت من الحروف المتحركة، فالحروف نموذج لكل الآلات ))،هذه الثورة التي حدثت بفضل المطبوع فصلت (القلب عن العقل) و (العلم عن الفنون ) مما أدى إلى سيطرة التكنولوجيا والمنطق السطري.
3.عصر وسائل الأعلام الإلكترونية: من سنة 1900 تقريبا،حتى الوقت الحالي.
يسمي ماكلوهان المرحلة التي نعشيها حاليا عصر (الدوائر الإلكترونية) ، كما تتمثل بشكل خاص في التليفزيون والكومبيوتر، فالإلكترونيات، بتوسيعها وتقليدها لعمل العقل البشري، وضعت نهاية لأسلوب تجريد الواقع، وأعادت القبلية للفرد مرة أخرى، مما أحدث نتائج ثقافية واسعة النطاق.
يقول ماكلوهان أن الأنماط الكهربائية للاتصال، مثل التلغراف والراديو والتليفزيون والسينما والتليفون والعقول الإلكترونية، تشكل هي الأخرى الحضارة في القرن العشرين وما بعده، وبينما شاهد إنسان عصر النهضة الطباعة، وهي شيء واحد، في الوقت الواحد، في تسلسل متوال، مثل سطر من الحروف، فإن الإنسان الحديث يجرب قوى كثيرة للاتصال، في نفس الوقت، وأصبحت عادة قراءة الكتاب، تختلف عن الطريقة التي ننظر بها إلى الجريدة، ففي حالة الجريدة لا نبدأ بقصة واحدة نقرؤها كلها ثم نبدأ قصة أخرى، ولكن تنتقل أعيننا في الصفحات لتستوعب مجموعة غير مستمرة من العناوين والعناوين الفرعية، والفقرات التي تقدم الموضوعات، والصور، الإعلانات.ويقول ماكلوهان" أن الناس لا يقرؤون الجريدة فعلا، بل يدخلونها كل صباح مثلما يأخذون حماما ساخناً"، والمساهمة أو الاشتراك كلمة أساسية في هذه الحالة، لأنه يجعل الجريدة من المطبوعات التي تستخدم كوسيلة (شفهية) وليست سطرية، فالصفحة الأولى في الجريدة تعرضك في نفس الوقت للأخبار عن كل الموضوعات في كل أنحاء العالم، والقصص في الجريدة الحديثة مطبوعة، ولكن قد تم استقاءها بواسطة التلغراف، والقارئ، كما يقول ماكلوهان، لا يعرف سوى القليل جداً عن الجريدة بذكاء أو بحاسة نقدية، فهذا ليس الهدف من وجودها، فالجريدة موجودة للإحساس بالاشتراك، بالمساهمة في شيء، يستخدمها الفرد بشكل كلي يقفز فيها كأنها حمام سباحة، ويقول ماكلوهان أنه حينما يزيد اشتراك الفرد في شيء.يقل فهمه له، ولكنه يعني ((الفهم )) وفقا لوجهة النظر السطرية القديمة، أن يكون الإنسان مبتعدا أو منطقياً.
وفقا لماكلوهان فإن العالم الذي كنا نعيش فيه قبل عصر الكهرباء كان عالماً مجرداً ومتخصصاً ومجزأً جداً، فبينما عملت الحروف الهجائية وتكنولوجيا المطبوع على تشجيع وتطوير عملية التجزئة والتخصص والابتعاد، نجد أن تكنولوجية الكهرباء تقوي وتشيع التوحيد والاشتراك، حتى فكرة الوظائف، هي نتيجة لتكنولوجية المطبوع، وتحيزاته، فلم تكن هناك (وظائف) في العصور القديمة والعصور الوسطى، بل كانت هناك فقط أدوار.الوظائف جاءت مع المطبوع والتنظيم البشري المتخصص جداً، فهي نمط حديث إلى حد ما للعمل، ظهر في القرن الخامس عشر، واستمر حتى اليوم، ويرجع السبب في وجود الوظائف إلى أنه كأن هناك تقدم مطرد لتجزئة مراحل العمل التي تقوم على (الميكنة ) و (التخصص). وسائل الأعلام الإلكترونية بدأت تغييراً كبيراً في توزيع الإدراك الحسي،أو كما يسميها ماكلوهان (نسب استخدام الحواس) فاللوحة أو المكتبة نشاهدها من خلال حاسة واحدة وهي الرؤية.أما السينما والتلفزيون فتجذبنا ليس بواسطة المشاهدة، لكن أيضاً بالاستماع. وتعدل وسائل الأعلام الظروف المحيطة بنا لأنها تجعل نسب استخدام حواسنا تتغير في عملية الإدراك، امتداد أي حاسة يعدل الطريقة التي نفكر ونعمل بمقتضاها، كما يعدل امتداد تلك الحواس الطريقة التي ندرك بها العالم. حينما تتغير تلك النسب يتغير الإنسان، وسائل الأعلام الجديدة تحيط بنا وتتطلب منا مساهمة، ويرى ماكلوهان أن استخدام الحواس بهذا الوجود الجديد الذي يعتمد على استغلال الفرد لحواس كثيرة يرجع بنا إلى تأكيد الرجل البدائي على اللمس التي يعتبرها أداة الحس الأولى (لأنها تتكون من تلاقي الحواس ).
*ويقول ماكلوهان أنه مدين لمؤلفات عديدة ساعدته على تكوين نظرية العصور الثلاثة للتاريخ البشري الاتصالي.
ومن بين المؤلفات التي ساعدت ماكلوهان على تطوير نظريته المبتكرة:
E.H. Gombrich , Art and IIIusion (1960.(
H.A. Annis , The Bias of Communication. (1951)
Siegfried Giedion , Mechaniztion Takes Command (1948. (
H.J. Chaytor , From Scipt to Print (1945).
Mumford ard Lewis,Techniques and Civilization (1934(.
*الفصل الثاني: نظرة "ماكلوهان" لوسائل الإعلام.
*المبحث الأول: مفهوم "القرية العالمية".
يرى ماكلوهان أن سائل الإعلام الجديدة حولة العالم إلى (قرية عالمية) تتصل في إطارها جميع أنحاء العالم ببعضها مباشرة، كذلك تقوّي تلك الوسائل الجديدة العودة (للقبلية) في الحياة الإنسانية، فعالمنا أصبح عالماً من نوع جديد، توقف فيه الزمن واختفت فيه (المساحة) لهذا بدأنا مرة أخرى في بناء شعور بدائي ومشاعر قبلية، كانت قد فصلتنا عنها قرون قليلة من التعليم.علينا الآن أن ننقل تأكيد انتباهنا من الفعل إلى رد الفعل، ويجب أن نعرف الآن مسبقا نتائج أي سياسة أو أي عمل، حيث أن النتائج تحدث أو يتم تجربتها بدون تأخير، وبسبب سرعة الكهرباء لم نعد نستطيع أن ننتظر ونرى، ولم تعد الوسائل البصرية المجردة في عالم الاتصال الكهربائي السريع صالحة لفهم العالم، فهي بطيئة جداً مما يقلل من فاعليتها، ولسوء الحظ نواجه هذا الظرف الجديد بعقلية قديمة، فالمعروف أن الكهرباء تجعل الأفراد يشتركون في المعلومات بسرعة كبيرة جداً، فقد أجبرنا عالمنا من خلال الوسائل الكهربائية على أن نبتعد عن عادة تصنيف المعلومات، وجعلنا نعتمد أكثر على أدراك النمط أو الشكل الكلي. لم يعد في الإمكان أن نبني شيئا في تسلسل، لأن الاتصال الفوري يجعل كل العوامل الموجودة في الظروف المحيطة تتفاعل، كما يجعل التجربة تتواجد في حالة تفاعل نشط.
فبينما عمل المطبوع على (تفجير) أو تحطيم أو تقسيم المجتمع إلى فئات، تعمل وسائل الأعلام الإلكترونية على إرجاع الناس مرة أخرى للوحدة القبلية، وتجعلهم يقتربون مرة أخرى من بعضهم البعض، فقد عادت حاسة الاستماع مرة أخرى إلى السيطرة، وأصبح الناس يحصلون على معلوماتهم أساساً بالاستماع إليها.
وهناك اختلاف كبير بالطبع، فالرجل الذي لا يستطيع أن يقرأ سيحصل على كل المعلومات عما حدث في الماضي، وما يحدث من الأمور التي لا يستطيع أن يراها،عن طريق السمع، سيجعل هذا عالمه أكثر انتشاراً وأكثر تنوعاً وتغيراً من الرجل المتعلم الذي يستخدم عيونه أكثر، في عملية القراءة، لأنه عن طريق الأذن لا يستطيع التركيز، ولكن يمكن للعين أن تركز في عملية القراءة، التي يمكن أن نعرفها بأنها استخدام العينين لتعلم الأشياء التي لا نستطيع أن نراها.
والاختلاف بين المجتمعات المتعلمة ومجتمعات ما قبل التعلم هائلة فالإنتاج على نطاق واسع لم يبدأ بالثورة الصناعية، ولكن بأول صفحة مطبوعة سحبها جوتنبرج من المطبعة، فقد أصبح في الإمكان للمرة الأولى، إنتاج المواد الإعلامية على نطاق واسع بحيث لا يستطيع الإنسان أن يفرق واحدة عن الأخرى وكان لكل الوحدات المنتجة، أي الطبعات، نفس القيمة،ك ن ذلك إنجازاً كبيراً بعد سنوات طويلة كان يتم فيها عمل شيء واحد، في الوقت الواحد، وكانت كل سلعة تختلف بعض الشيء عن السلعة الأخرى.
لكن الأهم من ذلك هو الظرف المحيط الذي فرضته وسيلة الأعلام المطبوعة: كلمة بعد أخرى، وجملة بعد أخرى، وفقرة بعد أخرى، وشيء واحد في الوقت الواحد، في خط منطقي متصل.وقد كأن تأثير هذا التفكير السطري عميقاً، وأثر على كل جانب من جوانب المجتمع المتعلم.