مفهوم جمهور وسائل الإعلام
يرتكز مفهوم جمهور وسائل الإعلام في صياغته الشكلية وفي مضامينه الراهنة على جملة من الاعتبارات لها علاقة بالتطور السريع الذي تشهده المجتمعات الحديثة في مجالات الإعلام والاتصال الجماهيري خاصة انعكاسات الاستعمال المكثف لتكنولوجيات الاتصال التي أدت إلى التفكير في إعادة صياغة العديد من المفاهيم السائدة حتى تتمكن من استيعاب العناصر المستجدة الناتجة عن هذا التطور. غير أن إعادة صياغة المفاهيم غالبا ما تضيف عناصر جديدة مستجدة، ولا تعني دائما وبالضرورة إلغاء و/أو تعديل العناصر السابقة التي تدخل في تكوين المفهوم.
إن مفهوم جمهور وسائل الإعلام الذي يعنينا في هذا المقام، لازال أصله التاريخي يلعب دورا أساسيا في الدلالات المختلفة والاستعمالات المتعددة لمصطلح “Audience”.
وقد كانت فكرة الجمهور تعني في الأصل مجموع المتفرجين على عرض درامي أو لعبة أو أي استعراض عام يستقطب عددا من الناس. و اتخذ الجمهور أشكالا مختلفة في كل الحضارات عبر كل مراحل التاريخ. وعلى الرغم من اختلاف الحضارات التي عرفتها البشرية وبالتالي تنوع الجمهور (جمهور الصلوات في المساجد والكنائس ودور العبادة في الديانات الأخرى)، إلا أن بعض الخصائص الجوهرية التي وجدت في فترة ما قبل وسائل الإعلام الجماهيرية، لازالت قائمة وتكون جزءا هاما من معارفنا وفهمنا وتفسيرنا للظاهرة.
لقد كان الجمهور واسعا، حيث يتكون من مجموع سكان القرية أو المدينة، وكان أفراده معروفين بذواتهم ومحددين في الزمن والمكان. كما كان تجمع الناس لتشكيل جمهور دور العبادة أو المسرح أو الملعب أو السوق، في الغالب منظما بحكم العادة ومعين المواقع وفقا للمراتب والمراكز الاجتماعية تشرف عليه سلطة روحية أو إدارية. وأضفت تلك السلطات على "الجمهور طابع مؤسسة" تفرض سلوكيات جماعية معينة.
العديد من هذه الخصائص لازال قائما في المفهوم السائد في الاستعمالات الراهنة للجمهور مع بعض التعديلات والتغييرات الشكلية في الترتيب والأهمية.
وعليه، فإن المفهوم الراهن لجمهور وسائل الإعلام لم يتكون طفرة واحدة، وإنما مر بمراحل تاريخية ساهمت كل واحدة في إضافة عناصر جوهرية جديدة وإدخال تعديلات شكلية على خصائص أخرى تبعا للتطور التاريخي العام وتطور تقنيات الاتصال الجماهيري على وجه الخصوص. ويتضح ذلك من خلال محطات تاريخية بارزة تركت بصماتها واضحة على الدلالات المختلفة لمفهوم الجمهور. ويمكن تلخيص مساهمات هذه المراحل كما يلي:
جمهور القراء والجمهور العام(Reader, Public)
أول وأهم مرحلة في تاريخ وسائل الإعلام الحديثة كانت اختراع حروف الطباعة في القرن الخامس عشر على يد العالم الألماني غونتبرغ (Gutenberg, 1394-1468)، حيث ظهر جمهور القراء بفضل التمكن من إصدار النشريات والمطبوعات بما فيها الصحف لاحقا وتوزيعها على نطاق أوسع مما كان عليه الحال سابقا.
وقد أوجد هذا التطور النوعي تقسيما اجتماعيا/اقتصاديا كان معروفا في السابق بين الأغنياء والفقراء والحضر والبدو، وساعد هذا التطور على ظهور مفهوم القراء (Reader) أولا ثم تكوين مفهوم أولي لما يعرف حاليا ب"الجمهور العام" (Public)، كتيار فكري أو رأي يربط بين عدد غير محدود من الناس يوجدون ضمن السكان ويختلفون عن عامة الناس تبعا لاهتماماتهم ومستوى تربيتهم وتعليمهم وتطلعاتهم الدينية أو السياسية أو الفكرية، أي بداية الظهور إلى الملأ لطبقة مستنيرة هدفها تكوين رأي عام حول القضايا المشتركة التي يحملونها ويحلمون بتجسيدها على أرض الواقع.
ظهوروسائل الإعلام الجماهيرية (Mass Media)
إن التطور التاريخي الرئيسي الثاني الذي كان له تأثير بالغ في تشكيل مفهوم الجمهور، هو الإفرازات الاجتماعية للثورة الصناعية التي أعطت دفعا قويا للطباعة مما أسهم في تنمية الصحافة وتسويقها، خاصة الصحافة الشعبية أو الموجهة إلى أفراد "المجتمعات الجماهيرية" الجديدة التي بدأت إرهاصاتها الأولية تتكون حول المدن الصناعية الكبرى والمكونة خاصة من شتات من المهاجرين انتقلوا من الأرياف التي تسودها الروابط العائلية والصلات الاجتماعية، إلى المدن والمجتمعات الجديدة التي تتميز بالتباين بين أفرادها، لغياب قيم ثقافية وتقاليد وأعراف اجتماعية مشتركة.
في هذه المرحلة التاريخية بدأت الصحافة تتخذ شكلها الجماهيري الذي لازال يلازم وسائل الإعلام والاتصال إلى الوقت الراهن مع بعض التعديلات الشكلية، كما سنرى ل